سورة الحجرات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} تتميماً للإرشاد وذلك لأنه لما قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح، وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال، وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيماً كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح.
وقوله: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} تأكيداً للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب، قال قائلهم:
أبي الإسلام لا أب (لي) سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
المسألة الثانية: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا، وقال هاهنا اتقوا مع أن ذلك أهم؟ نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى، وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتقوا الله} أو نقول قوله: {فَأَصْلِحُواْ} إشارة إلى الصلح، وقوله: {واتقوا الله} إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر، لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» لأن المسلم يكون منقاداً لأمر الله مقبلاً على عباد الله فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن من يأمن جاره بوائقه» يعني اتق الله فلا تتفرغ لغيره.
المسألة الثالثة: {إِنَّمَا} للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين، وأما بين المؤمن والكافر فلا، لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر، وأما الكافر فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو أب شرعاً، حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر، فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة، ولهذا من مات من الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار، كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث، فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية، بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب، فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب؟ نقول هذا سؤال فاسد، وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة، ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال النحاة (ما) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنما المؤمنين إخوة، وفي قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 159] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] ليست كافة. والسؤال الأقوى هو أن رب من حروف الجر والباء وعن كذلك، وما في رب كافة وفي عما وبما ليست كافة، والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تاماً، ويمكن جعله مستقلاً ولو حذف ربما وإنما لم ضر، فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار، ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح، وكذلك في إنما ولكنما، وأما عما وبما فليست كذلك، لأن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} لو أذهبت بما وقلت رحمة من الله لنت لهم، لما كان كلاماً فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة، ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم، فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام، فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيداً قائم ولو قلت زيد قائم لكفى وتم؟ نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة، تقول إن رجلاً جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه، وتقول جاءني رجل وأخبرني، ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما، وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف، والكلام في لعل قد تقدم مراراً.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
وقد بينا أن السورة للإرشاد بعد إرشاد فبعد الإرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي صلى الله عليه وسلم ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، وقد ذكرنا أن المؤمن إما أن يكون حاضراً وإما أن يكون غائباً، فإن كان حاضراً فلا ينبغي أن يسخر منه ولا يلتفت إليه بما ينافي التعظيم، وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز، فالسخرية هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب، وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر، وأقل من أن يلتفت إليه، فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم الثاني: هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول، لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه الثالث: هو النبز وهو دون الثاني، لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفاً ثابتاً فيه يوجب بغضه وحط منزلته، وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من يسمى سعداً وسعيداً قد لا يكون كذلك، وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة، وكذلك النبز بالمروان ومروان الحمار لم يكن كذلك وإنما كان ذلك سمة ونسبة، ولا يكون اللفظ مراداً إذا لم يرد به الوصف كما أن الأعلام كذلك، فإنك إذا قلت لمن سمي بعبد الله أنت عبد الله فلا تعبد غيره، وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة، فقال لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلاً وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبو (هم) طالبين حط درجتهم والغض عن منزلتهم، وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم فلا تسموهم بما يكرهونه ولا تهولوا هذا ليس بعيب يذكر فيه إنما هو اسم يتلفظ به من غير قصد إلى بيان صفة وذكر في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم، والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء فائدة: وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسة إلى الرجال، لأن المرأة في نفسها ضعيفة، فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها (إليه)، وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فيوجد فيهم هذا النوع من القبح وهذا أشهر.
المسألة الثانية: قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ} كسراً له وبغضاً لنكره، وقال في المرتبة الثانية {لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم الله درجة وفي الأول جعل المسخور منه خيراً، وفي الثاني جعل المسخور منه مثلاً، وفي قوله: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ} حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى الإهمال وجعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} [الأعراف: 12] فصار هو خيراً، ويمكن أن يقال المراد من قوله: {أَن يَكُونُواْ} يصيروا فإن من استحقر إنساناً لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير، ويضعف هو ويقوى الضعيف.
المسألة الثالثة: قال تعالى: {قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} ولم يقل نفس من نفس، وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى منع التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد، وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعاً، فذكرهم بلفظ القوم منعاً لهم عما يفعلونه.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفساً فكأنما عاب نفسه وثانيهما: هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملاً للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] أي إنكم إذا قتلتم نفساً قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجهاً آخر ثالثاً وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم، أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه، وهذا الوجه هاهنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}.
المسألة الخامسة: إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته، لكن قوله تعالى: {وَلاَ تَلْمِزُواْ} قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان، نقول ليس كذلك بل العكس أولى، وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس، لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم، والأول: يدل على القرب، والثاني: على البعد، فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد قيل بمعنى واحد.
المسألة السادسة: قال تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ} ولم يقل لا تنبزوا، وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يلمزه به، وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب، وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به، فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره، فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز.
وقوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان}.
قيل فيه إن المراد {بِئْسَ} أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر، ويحتمل وجهاً أحسن من هذا: وهو أن يقال هذا تمام للزجر، كأنه تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى: {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين.
قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالماً فاسقاً وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم وثانيهما: أن يقال قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ} {وَلاَ تَلْمِزُواْ} {وَلاَ تَنَابَزُواْ} منع لهم عن ذلك في المستقبل، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديداً في الزجر، والأصل في قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ} لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين، كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُم} [البقرة: 6] والحذف هاهنا أولى لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها وهمزة أنذرتهم أخرى واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة، ولهذا وجب الإدغام في قولنا: مد، ولم يجب في قولنا امدد، و(في) قولنا: مر، (دون) قوله: أمر ربنا.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيباً فيلمزه به، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً، وقوله: {كَثِيراً} إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ظنوا بالمؤمن خيراً» وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين، فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله: {اجتنبوا كَثِيراً} وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} إتماماً لما سبق لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلاناً يعني أعلمه يقيناً وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى: ولا تتبعوا الظن، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان أحدها: في قوله تعالى: {بَّعْضُكُم بَعْضاً} فإنه للعموم في الحقيقة كقوله: {لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] وأما من اغتاب فالمغتاب أولاً يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه، والعيب حامل على العيب ثانيها: لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلاً بقوله تعالى: لا تغتابوا، مع الاقتصار عليه نقول لا، وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال: {بَّعْضُكُم بَعْضاً} وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ثالثها: قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ، وقال من قبل {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فلا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر رابعها: ما الحكمة في هذا التشبيه؟ نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم، وقوله: {لَحْمَ أَخِيهِ} آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو، فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك، فأكل لحمه أقبح ما يكون، وقوله تعالى: {مَيْتًا} إشارة إلى دفع وهم، وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم، وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم، ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم، كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى: وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتاً، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، وقوله تعالى: {مَيْتًا} حال عن اللحم أو عن الأخ، فإن قيل اللحم لا يكون ميتاً، قلنا بلى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
ما أبين من حي فهو ميت فسمى الغلفة ميتاً، فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ، لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال، كما يقول القائل: مررت بأخي زيد قائماً، ويريد كون زيداً قائماً، قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل، فصار الأخ مأكولاً مفعولاً، بخلاف المرور بأخي زيد، فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثماً أي وهو آثم، أي صاحب الوجه، كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته، ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثماً، فتجعل الآثم حالاً من غيرك، وقوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: العائد إليه الضمير يحتمل وجوهاً الأول: وهو الظاهر أن يكون هو الأكل، لأن قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ} معناه أيحب أحدكم الأكل، لأن أن مع الفعل تكون للمصدر، يعني فكرهتم الأكل الثاني: أن يكون هو اللحم، أي فكرهتم اللحم الثالث: أن يكون هو الميت في قوله: {مَيْتًا} وتقديره: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه، فكأنه صفة لقوله: {مَيْتًا} ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير، يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادراً، ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً، فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.
المسألة الثانية: الفاء في قوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} تقتضي وجود تعلق، فما ذلك؟ نقول فيه وجوه:
أحدها: أن يكون ذلك تقدير جواب كلام، كأنه تعالى لما قال: {أَيُحِبُّ} قيل في جوابه ذلك.
وثانيها: أن يكون الاستفهام في قوله: {أَيُحِبُّ} للانكار كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه إذاً ولا يحتاج إلى إضمار.
وثالثها: أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب، وترتبه عليه كما تقول: جاء فلان ماشياً فتعب، لأن المشي يورث التعب، فكذا قوله: {مَيْتًا} لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت، فكيف يقربه بحيث يأكل منه، ففيه إذاً كراهة شديدة، فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة.
ثم قال تعالى: {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي، أي اجتنبوا واتقوا، وفي الآية لطائف: منها أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة مرتبة بيانها، هو أنه تعالى قال: {اجتنبوا كَثِيراً} أي لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن، ثم إذا سئلتم على المظنونات، فلا تقولوا نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن علمتم منها شيئاً من غير تجسس، فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا، ففي الأول نهى عما لم أن يعلم، ثم نهى عن طلب ذلك العلم، ثم نهى عن ذكر ما علم، ومنها أن الله تعالى لم يقل اجتنبوا تقولوا أمراً على خلاف ما تعلمونه، ولا قال اجتنبوا الشك، بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن، وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء، والقول بالشك، والرجم بالغيب سفه وهزء، وهما في غاية القبح، فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر.
وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين، لذلك قال في الآية {لاَ يَسْخَرْ} ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة، فقال في الأولى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الحجرات: 11] وقال في الأخرى {إِنَّ الله تَوَّابٌ} [الحجرات: 12] لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي، وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله: {اجتنبوا} ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6